القصة الكاملة لـ “طرد بولا”
أول خيمة أُرسلت إلى ساحة الشهداء بُعيد ساعات قليلة من انطلاق 17 تشرين خرجت من مركز جمعية دفى. الجمعية التي نظمت عشرات الحملات التضامنية الكبيرة خلال الأعوام العشرة الماضية، كانت جاهزة على المستوى اللوجستي لمواكبة التحركات. والأهم: تأمين استمراريتها عبر عدة كبيرة من التجهيزات التي لا يمكن تأمينها على عجل. وهكذا ظهرت بسرعة خطوط الإمداد من مركز دفى في كورنيش النهر إلى جميع الساحات المنتفضة.
وبموازاة اللوجستيات، نشطت رئيسة الجمعية بولا يعقوبيان في محاولة وصل ما يمكنها من ناشطين ومجموعات وأحزاب ببعضهم البعض، مستفيدة من ثلاثة أمور:
أولاً، قدرتها على التواصل مع غالبية الأفرقاء الجديين.
ثانياً، تشبيكها الاستثنائي مع المطابخ الإعلامية الرئيسية.
ثالثاً، اقتناعها بالاكتفاء آنياً بالعمل في الظل، وهو ما يستصعبه كثيرون.
هجوم الجيوش الإلكترونية على بولا
وبعيد هدوء الساحات، كما خلال صخبها، لم تخرج بولا أبداً لتقول إنّها فعلت كذا وكذا وكذا، إلا أنّ الأجهزة الأمنية كانت ترسل للأحزاب الرئيسية تقاريرها الدورية وفيها أكثر من إشارة واضحة إلى الدور المحوريّ ليعقوبيان في هذا كلّه. وهو ما تُرجم بتركيز هائل من جميع الجيوش الإلكترونية الحزبية دون استثناء على التناوب على مهاجمتها، فلا يكاد ينتهي جيش إلكترونيّ حتى يبدأ آخر؛ يقاتلون بعضهم البعض على كل شيء ثم يتناغمون في استهدافها؛ كلّهم يعني كلّهم ويُضاف إليهم عدد من الناشطين والناشطات من المجتمع المدنيّ أيضاً، خصوصاً أنصار العلامّة الفكرية جاد داغر المنضوين في الحزب العقائديّ الكبير: سبعة.
ثمّ؛ دوى تفجير المرفأ. قبل أن يستوعب أحد ما حصل، كانت دفى تفتح أبوابها لمئات المتطوعين من جهة وتنظم منذ الليلة الأولى واحدة من أكبر حملات الإغاثة، مستفيدة – كما في 17 تشرين – من جهوزية المستودعات. وحين كانت الأحزاب بجميع ألوانها تحاول بعد بضعة أيام استلحاق نفسها بتقديم بعض المساعدات العينية كان تسمع عتباً هائلاً من المواطنين يستتبعه مقارنة فورية بحضور يعقوبيان الفوريّ والدائم بينهم. مع العلم أنّ رئيس حزب الطشناق هاغوب بقرادونيان اضطر مثلاً إلى تصوير إعلان دعائي عن زيارة عفوية لأحد المنازل، من أجل الإيحاء أنّه هو أيضاً يفعل ذلك. لكن كلّه دون نتيجة، فأهل الأحياء المتضررة كانوا يلاحظون المواكب الحزبية تصل مزنرة بالأعلام إلى منازل الحزبيين حصراً لتناولهم المساعدات وتمضي في طريقها كأن غير الحزبيين غير مرئيين بالنسبة إليها.
وفي وقت اعتاد بعض رؤساء الأحزاب الناشطة سابقاً ضمن قوى 14 آذار على المزايدة، خرجت بولا باستقالتها لتفضح مزايدات هؤلاء الصوتية. وهكذا بات يمكن ربط يعوقبيان بخمسة ملاحظات أساسية:
- تشبيك إعلامي واسع.
- جهوزية لوجستية كبيرة لكل طارئ.
- قدرة خدماتية كبيرة.
- صلة وصل رئيسية بين عدد كبير من الأفرقاء المؤثرين في بيئة المجتمع المدني.
- سقف سياسي مرتفع يحرص على فضح المزايدين.
وهكذا، تضاعف غضبهم كلّهم يعني كلّهم، خصوصاً أولئك الذين باتوا يستشعرون أن يعقوبيان تشكل عقبة حقيقية أمام قيادتهم لـ”الثورة” مثل القوات اللبنانية أو أنّ جمعيتها تراكم المصداقية في الانفاق على حساب التشكيك بجمعياتهم، فتراجعت حدة حملات بعض الجيوش الإلكترونية وتقدمت أخرى محمّلة بمزيد من الإشاعات اليومية والأكاذيب.
حادثة المحكمة العسكرية
في هذا السياق، كان لا بدّ من حادثة المحكمة العسكرية أول من أمس؛ كان لا بدّ من فيديو ثلاثين ثانية يحاول نزع شرعية التمثيل الثوريّ عن بولا. للوهلة الأولى اعتقد كثيرون أنهم لا شك بعض الثوار المعادين منذ 17 تشرين ليعقوبيان نتيجة مواقفها السياسية المعادية لحزب الله، إلا أنّ تحقيقات يعقوبيان نفسها أكدت أن هذا غير صحيح.
فعلياً، كانت يعقوبيان في زيارة للسفيرة الفرنسية، أمضت عندها ساعتين، من الساعة الرابعة وحتى السادسة والنصف. وحين خرجت وجدت نفسها بالقرب من مكان الاعتصام الذي يتواجد بشكل دائم فيه عدة ناشطين مقربين جداً من يعقوبيان مثل واصف الحركة وخلدون جابر وغيرهما.
وصلت ولم تكن تحمل أي شيء؛ لا مياه ولا غيره كما أُوحي من سجل الفيديوهات. فقد سبق لدفى أن أرسلت غالبية تجهيزات الاعتصام في يومه الأول، ودون كاميرات. ودون هذه الكاميرات، أمضت يعوقبيان نحو نصف ساعة مع المعتصمين قبل أن يصل أحدهم مع مكبّر الصوت، وناشط في حزب سبعة بالقميص الأصفر وفتاة ما تزال مجهولة الهوية، وثلاثة كاميرات. غادرت هي وبقوا هم يصورون الفيديوهات.
وفي هذه الأثناء، كان جيش المستقبل الإلكتروني يبدأ بنشر الأخبار عن طرد الثوار ليعقوبيان قبل أن تلحق به جميع الجيوش الإلكترونية الحزبية و”سبعة” وبعض الناشطون والناشطات؛ ليتبيّن بسرعة أن بين المعتصمين كان ثمة حضور مهم لأنصار تيار المستقبل بحكم الحضور المستقبلي في المناطق التي يأتي الموقوفون منها. وما كادت الأجهزة الأمنية ترى بولا تقترب حتى سارعت إلى إبلاغ من يعنيهم الأمر في الأحزاب ليستنفروا جماعتهم فوصل مكبر الصوت.
والنتيجة، من يراقب ردة فعل الجيوش الالكترونية لا بدّ أن ينصدم من كيفية اختلاف هؤلاء على كل شيء وتقاطعهم عند كره يعقوبيان. يشتمون بعضهم البعض طوال النهار، ثم يشبكون أياديهم عند العصر لشتم يعقوبيان. يحصل ذلك بشكل يومي.
استفزاز بولا للأحزاب
هي في خطابها السياسي مستفزة جداً وكثيراً لجمهور التيار الوطني الحر وحزب الله، وهي في حضورها الميداني في الأشرفية مستفزة جداً وكثيراً للقوات اللبنانية. بولا اليوم تلعب في ملعب القوات حصراً، على جميع المستويات. وجهد معراب هائل لشيطنتها؛ معراب تعلّم أن جمهور 8 آذار والتيار الوطني الحر لن يؤيّد القوات من قريب أو بعيد؛ أمّا جمهور 14 آذار المسيحي، فمنقسم اليوم بين القوات والكتائب والمجتمع المدني، ومصداقية المجتمع المدني والكتائب عند هذا الجمهور بالتحديد أكبر من مصداقية القوات. أما سعد الحريري، فيعلم أنّها تعلم الكثير أولاً، ويعلم ثانياً أن كلمتها مسموعة جداً في الخليج وهي تكيل له أمام السفراء جميع أنواع الانتقادات، فيما تصر هنا على “التشبيك” مع مجموعات من داخل البيئة المستقبلية.
عملياً، حاول كل من سبق تعدادهم رد واحد من صاعات بولا الكثيرة لهم، وأكدوا في النتيجة أن أحداً لا يمكنه القول إنّ الشارع شارعه حيث للجميع دون استثناء حضور في الشارع، وعلى كل ناشط يتباهى بشهرته ونفوذه وسط المتظاهرين أن يعلم أن ناشطاً مغموراً ينتظره في منتصف الطريق أو آخره لسؤاله من هو ولماذا يعتقد أنه أهم منهم جميعاً وغيره وغيره. بعض الأحزاب أيّدت في 17 تشرين، ثورة على ذوقها ومقاسها وتلتزم بتنفيذ أجندتها؛ لكنها لا تؤيّد ولا تريد ثورة وثوار غير منضبطين، يفتحون على حسابهم ويواصلون ثورتهم بعد أن حققت الثورة أهدافها بالنسبة للأحزاب وانتفت حاجتهم إليها.
غسان سعود